ما الذي يشكِّل ذاتك والرقيب على أخلاقياتك؟
عامل ذاتك كما تعامل طفلك تمامًا، تحنو وتصبر عليها؛ فكلّ الأشياء تبدأ صغيرةً وجاهلة حتى تكبر وتنضج، ومثلها نفسُك.
في كتابها الفاتن «الذات تصفُ نفسها» تقول جوديث بتلر: «هكذا أحاول أن أبدأ قصة عن نفسي، أبدؤها من مكانٍ ما وأحدِّد الزمن في محاولةٍ للشروع في متتاليةٍ أقدِّم بها روابط سببية أو بنية سردية على الأقل. أسرد وأقيد نفسي في أثناء السرد وأصفُ نفسي وأقدِّم وصفي إلى آخر على شكل قصة يمكن لها أن تلخِّص كيف ولماذا أنا ما عليه الآن».
هنا وجدتني أتساءل: ما الذي شكَّلني؟ وكيف أصبحتُ ما أنا عليه الآن؟
تشعّبات هذا السؤال لا تنتهي؛ فالطفولة تلعبُ دورًا في تشكيلنا كما يخبرنا فرويد وتؤكده لنا مدارس علم النفس الحديث. أما نحن فنشعر بأن العائلة والمجتمع يشكلاننا؛ فبصماتهما لا تزال مطبوعةً علينا، في جيناتنا وطرائق تفكيرنا وسماتنا الشخصية من غضبٍ أو حِلم أو جلدٍ للذات أو حنوٍ عليها. كل ذلك ممتد إلينا وراسخ فينا لأسبابٍ أشك أننا توصلنا إليها حتى الآن.
لكن لنبدأ الإجابة مع تأكيد أن تجربة الإنسان هي ما تجعل حياته فريدةً، أي تجربةُ امتلاك شيء ثم خسارته وتجربة الفقد وتجربة الاكتشاف وتخطي حدود الوعي وتجاوزه واقعه اليومي المعيش وتجربة الابتعاد عن العائلة. وتقول بتلر حول هذا المعنى: «لا وجود لذاتٍ تتعلم من التجربة دون أن تحبطها المعاناة والمرض ويدمرها الفقد».
كذلك تمتد الذّات لتتشكل منها ذاتٌ أخرى ترقبها وترصدُ أفعالها وتزكِّيها، هي شاهدٌ في ظنّي للآية الكريمة «بل الإنسان على نفسه بصيرة»؛ فالإنسان بصيرٌ بنفسه وإن اختلق ألف عذرٍ لارتكاب خطأ أخلاقي أو ديني أو سوَّلت له نفسه أن يسلك طريقًا لا يتقاطع مع نهجه الأخلاقي؛ لذلك تقول جوديث «أنا بالنسبة لنفسي آخر دائمًا.»
ذلك المنظور الذي تحاكم به أفعالك وأفكارك وتلك الأفكار التي تضعكَ تحت المجهر بشكلٍ أو بآخر على الدوام، هي ما يجعلك لذاتك «آخر دائمًا» غريبًا عنكَ، وهذا ما يشكِّلك أيضًا مع الأيام. إذن نحن أمام ذاتين على الأقل داخل وعي الفرد الواحد: ذاتٌ تمارس الحياة اليومية وتعيش وتتفاعل مع البشر والمواقف الاجتماعية، وذاتٌ أخرى تراقب كلَّ الأفعال والممارسات وتشكّلها بناءً على النظام الأخلاقي والقيمي الذي تنتمي إليه وتستقيه ممّا تربَّت عليه من القيم الدينية والاجتماعية وتربية العائلة والوالدَين.
كيف إذن أفهم الآخر في نفسي؟ كيف أفهم عين الرقيب والراصد داخلي؟ وكيف أمدّ الجسور بيننا؟ إن «الوالديَّة» مع ذاتك حل ناجع على ما يبدو، بمعنى أن تعامل ذاتك كما تعامل طفلك تمامًا، تحنو عليها وتقوِّم أخطاءها وتصبر عليها حتى تبلغ في نفسك ما تصبو إليه؛ فكلّ الأشياء تبدأ صغيرةً وجاهلة حتى تكبر وتنضج، ومثلها نفسُك.
إذا كان سارتر يقول: «الآخرون هم الجحيم» فإن مؤلفتنا تؤكد لنا هذا المعنى بقولها: «ينطوي اللقاء مع الآخر على خوفٍ ونشوة، خوف لأن الوعي الذاتي يجد نفسه ممثلًا في مكانٍ آخر. إن هذا التداخل في طبيعة اللقاء مع الآخر، الذي هو منحةٌ وتملّكٌ في آنٍ واحد، هو ما يجعل اللقاء مع الآخر كفاحًا!».
اللقاء مع الآخرين كفاح لأننا في كل لحظةٍ نتحاور فيها مع الآخر وندخله في حياتنا فإننا بالضرورة نسمح له أن يشكِّلنا، سواء أكان هذا الآخر ذاتًا حقيقية أم ذاتًا نقرؤها ونراها عبر هواتفنا ومن خلال العالم الإلكتروني. لذلك فإن الحبّ هو ما يقلب المعادلات دائمًا، وهو ما يكون حالة انكشافٍ تام للآخر بكل ما لدى الفرد من مخاوف وآلام وأحلام.
والزواج هو ذروة اكتمال حالة التشكُّل التي أقصدها؛ ففيه يقتحمُ الآخر حياتك ويعيد تشكيلك وتشكيل ذاتك، وتمارس أنت الدور نفسه إلى حين الوصول إلى نتيجةٍ متساوية تسمى «التوافق الزوجي».
كيف إذن أستمرّ في العيش ممثِّلًا رأيي وقناعاتي فعلًا؟ قد تبدو إجابة هذا السؤال اليوم تحدّيًا وضربًا من الخيال، حيث نتعرَّض كل لحظة للآخر، لا سيما خلال منصات التواصل الاجتماعي، لكن العزلة المستمرة وتصفية الذهن والنفس من شوائب الحياة والآخرين وتأثيرهم فينا والتأمل في الذات والطبيعة والابتعاد عن ضجيج الحياة والحفاظ على روتين يضمن العزلة، كل تلك أسبابٌ تساعدك على الوصول إلى «بعض ذاتك» وتصفها!
نحن ممتنون لزيارتك لمدونتنا، حيث ستجد أحدث المستجدات في عالم التكنولوجيا والابتكار. نهدف في هذه المدونة إلى تقديم لك محتوى ذو جودة عالية يغطي مجموعة واسعة من المواضيع التقنية المثيرة.jj