هل الكاتب انطوائي بالضرورة؟
سواءٌ كنت صاخبًا تحب الانغماس بين الجموع أو كنت منطويًا تلتمس الأعذار للعودة إلى غرفتك مبكرًا، ففي داخلك روح فنان تنتظر أن تلتفت إليها.
كانت السماء غائمة والساعة تشير إلى الواحدة ظهرًا في ثاني أيام ديسمبر حين غادرت القاعة المثبَّتة كقارب شفَّاف أسفل القصر الجامعي في مدينة مانهايم. قررت سلك الطريق الأطول إلى محطة القطار رغم البرد لأفكر فيما حدث للتو في المحاضرة. كيف لنقاشٍ اقتصادي حول نظريات الإدارة أن ينتهي بتساؤلي عن العلاقة بين سمات شخصيتي وشغفي بالفن والأدب؟
خلال الساعات الخمس الماضية فاجأنا بروفسور علم الاقتصاد د. شاهزيب أختار بربطه تاريخ الأفكار في علم الإدارة بالأنواع الأساسية لشخصيّات البشر والاختلافات بينها. كأن يميل أحدنا إلى الانطواء والصمت ويميل الآخر إلى الانفتاح والصخب. كأن يعشق أحدهم التنظير ويسرع آخر إلى الأفعال.
ذكّرني هذا النقاش بتساؤل لطالما شغلني عن السمات النفسية المصاحبة لشخصيَّة الفنان. ما سر انبعاث الفن منَّا؟ وما المتشابه وما المختلف بين روّاد الفن عبر العصور؟ غالبًا ما تُعرَض لنا شخصية الفنان في السينما وفي الثقافة السائدة على أنها شخصية منطوية وتحب العزلة وحسَّاسة ورهيفة المشاعر ويغيب صاحبها في عوالمه الداخليّة. أتساءل من أين أتت هذه الصورة وهل لها أساس من الصحة؟
قبل أن يختم د. أختار حديثه، طلب منا الإجابة عن عدة أسئلة ضمن اختبارٍ للشخصية ثم كتابة مقال عن نتيجته وكيف تتسق قرارات حياتنا الكبرى مع أنواع شخصيّاتنا. توجّست في البداية، وظننت أنه أحد تلك الاختبارات العشوائية التي لن تدلني على أيّ معنى يمكنني الاستعانة به لكتابة المقالة. شعرت بالتعب بعد ساعات من النقاش الطويل ولم أفهم الغاية من هذا الطلب.
تذكرت خلال رحلة العودة في القطار أنني جلبت معي كتاب الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه «رسائل إلى شاعر شاب». بدأت قراءة الكتاب إلى أن وصلت إلى نصيحة ريلكه: «ابحث في ذاتك عن الإجابة.» ابتسمت ونظرت إلى انسياب نهر الراين عبر النافذة وتأمّلت كلماته: «لا أحد يمكنه مساعدتك. ابحث في ذاتك عن الإجابة.»
وضعت الكتاب جانبًا وبدأت الإجابة عن أسئلة اختبار الشخصية: هل أُفضِّل الجلوس بين الجموع أم المحادثات الهادئة بين اثنين في ركن الغرفة؟ هل أستطيع السفر عدة أيام بين الأرياف دون هدف أم أحتاج إلى خطة مفصلة لكل محطة وكل مزار؟ هل أٌفضِّل زيارة متحف في عطلة الأسبوع أم قراءة كتاب عن حياة الأسماك؟ أجبت عن الأسئلة جميعها وشعرت بالفضول تجاه النتيجة.
كانت شخصيتي شخصية البطل. آلبطل؟ تعجّبت من النتيجة، وبدأت بقراءة الوصف واندهشت من دقته. وفي الأيام التالية بدأت الحديث مع عدد من الأصدقاء عن الاختبار الذي أخذه بعضهم. وبدأنا بالنقاش عن دلالاته ومعانيه. لكنني لم أجد إجابة بعد عن تساؤلاتي عن شخصيَّة الفنان. من أين يأتي الفن؟ وهل من سماتٍ تحدد شخصيَّة الفنان؟ أدركت أن عليَّ البحث والتنقيب أكثر. لربما وجدت في تاريخ دراسة الشخصيّة بعض الإجابات. أردت أن أعرف من أين أتت اختبارات الشخصية ولماذا ظهرت؟ ذهبت للبحث وكانت الرحلة مذهلة ومفاجئة.
كارل يونق ضد سيقموند فرويد: المنطوي ضد المنفتح
ظهرت الحاجة إلى اختبارات الشخصية أوّل مرة بسبب الحرب العالمية الأولى، لفحص الجنود قبل إرسالهم إلى الحرب للتأكد من صحتهم النفسيّة من طريق طرح ستة عشر سؤالًا مباشرًا عليهم. ولم يكن لاختبارات الشخصية وجود قبل ذلك. في الوقت ذاته كان كارل يونق عرَّاب علم النفس التحليلي يخوض إحدى أكبر مواجهاته مع معلمه سيقموند فرويد لينتهي ذلك بإصدار يونق كتابه «الأنماط النفسية» (Psychological Types)، الذي عرّف فيه الفرق بين شخصيته «المنطوية» وشخصية فرويد «المنفتحة». ورفض فيه النمط السائد في المجتمع الذي كان يحتفل بأصحاب الشخصيات الصاخبة والمنفتحة.
قاتلَ يونق في سنوات حياته لرفع صوت جميع الشخصيات، وكتب عن الصراع الأزلي بين المنطوين والمنفتحين منذ فجر التاريخ وعن حجم الهوَّة التي لا يمكن ردمها بينهم.
وفي نموذج يونق للشخصية نجد أربع سمات مركزية: الميل إلى الانطواء أو الانفتاح، وإلى الحدس أو الإحساس، وإلى المنطق أو المشاعر، وإلى الأفكار أو الأفعال. وما زالت نظرية يونق مهيمنةً على الفهم المعاصر لأنواع الشخصيات حتى الآن.
الفن يأتي من كل مكان
إنِ استعنّا بإطار يونق لفهم شخصيات الفنانين والكتَّاب عبر العصور فسنجد إجابة واحدة: الفن ينبعث من كل الشخصيات. كان ڤنست ڤان قوخ منطويًا ومثاليًا وشديد الحساسية والعاطفة. وكذلك المغني الأمريكي بوب ديلان الذي كان صامتًا في معظم لحظات فلم سكورسيزي عن جولته الموسيقية «Rolling Thunder Revue» رغم أن ديلان هو نجم الفلم وسيد المسرح في زمنه.
وإنْ نظرنا إلى روائي مثل إرنست همنقواي الذي عُرف بمغامراته وحبّه للسفر فسنرى العكس تمامًا. كان همنقواي منفتحًا يميل إلى الثقة بحواسه لا بحدسه وصاحب صوت مرتفع وحضور هائل بين حانات باريس وهاڤانا. وكان سائق سيارة إسعاف في الحرب العالمية الأولى ومراسلًا شجاعًا في الحرب العالمية الثانية. أما الكاتب الأمريكي إدقار آلان پو فكان منطويًا وعاطفيًا وحاد الذكاء ويقضي ساعات طويلة بمفرده، وبسبب حساسيّته العالية لم يستطع تجاوز فكرة الموت وتمكَّن في النهاية من اختراع القصة القصيرة كما نعرفها في العصور الحديثة.
وحين ننظر إلى تاريخ الفن والكتابة في عالمنا العربي نجد مزيدًا من الأدلة على أن الفن يأتي من كل مكان، من المنطوين والمنفتحين ومن أصحاب الحدس وأصحاب الإحساس ومن المنطقيين والعاطفيين.
الشاعر السعودي غازي القصيبي نموذج لشخصية القائد المتمكن من أدواته الاجتماعية والدبلوماسي الرشيق والمُنجز أعمالًا لها أثر كبير في العالم من حوله؛ ولهذا تقلّد أكبر المناصب والوزارات في حياته. وفي المقابل مثَّل الشاعر السعودي محمد الثبيتي شخصيّة حالم يعتنق عالمه الصغير ويمتلئ بالعاطفة ويسحره عالم الأفكار. وولّدت لنا هذه الشخصية مجموعة من أجمل القصائد العربيّة المعاصرة:
يا أيها النخلُ، يغتابك الشجر الهزيل، ويذمُّك الوتد الذليل، وتظلُّ تسمو في فضاء الله، ذا ثمرٍ خرافي، وذا صبر جميل.
فسواءٌ كنت صاخبًا تحب الانغماس بين الجموع أو كنت منطويًا تلتمس الأعذار للعودة إلى غرفتك مبكرًا لتخلو بنفسك. مهما كانت سمات شخصيّتك ففي داخلك روح فنان تنتظر أن تلتفت إليها وتكتشفها. وهذا التنوّع هو ما يجعل الفن أكثر اتساعًا وجمالًا من أي شخصية منفردة؛ لأننا جميعًا مدعوون للمشاركة فيه.
جميعنا حصلنا على تذاكر لحضور الحفلة الكونية للاستمتاع بالفن وخلقه. وعلى عكس بقية الحفلات التي لا يسمح للجمهور فيها بالمشاركة في العرض، هذه الحفلة الوحيدة التي نستطيع جميعنا الصعود إلى مسرحها للتأدية والمشاركة. يا لها من هِبة ويا لها من معجزة.
نشرة أسبوعية تتجاوز فكرة «أنت تستطيع» إلى «كيف تستطيع» تحقيق أهدافك وتحسين نمط حياتك.